حياة الأفراد كما في حياة الأمم أحداث نوعية فارقة مثل يوم بدر "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" وحطين وعين جالوت، حيث يتكثف التاريخ وتتجمع أسباب التغيير اهتراء للشرعيات القائمة وتصاعدا للغضب وتراكما للعجز، فما يبقى غير شرارة التفجير لتضرم النار في الحطام، تبشيرا بحصول تحولات تكون من العمق والاتساع والامتداد ما يجعل جملة الأوضاع ما قبل الأحداث غيرها ما بعدها.
تقديرنا أن العدوان الصهيوني الهمجي الوحشي على غزة المحاصرة منذ سنوات والمجردة من السلاح، يمثل خطوة متقدمة على طريق تحلله، بما يرشح هذه الأسابيع الثلاثة من ملحمة الصمود الأسطوري الغزي التي هزت العالم، لتتوج بنصر باهر في مواجهة أحدث وأشد آلات للحرب دمارا تديرها أوسخ وأحط الأيادي همجية، فينفتح التاريخ في المنطقة وفي جملة علائقها على أضخم التحولات، وذلك ليس فحسب على صعيد المسألة الفلسطينية في علاقتها بالاحتلال وحسب بل أيضا على صعيد قيادة المشروع الوطني الفلسطيني وعلاقة المشروع الصهيوني بالمنطقة والعالم وعلاقة النظام العربي بشعوبه وعلى صعيد علاقة أمة الإسلام بالغرب وعلاقة الآلة بالإنسان، رغم أن الحدث قد جرى على رقعة ضيقة لا تتعدى 360 كلم2.
"
العدوان الصهيوني الهمجي الوحشي على غزة المحاصرة منذ سنوات والمجردة من السلاح، يمثل خطوة متقدمة على طريق تحلله، بما يرشح هذه الأسابيع الثلاثة من ملحمة الصمود الأسطوري الغزي التي هزت العالم، لتتوج بنصر باهر في مواجهة أحدث وأشد آلات للحرب دمارا
"
وذلك لما تمثله المسألة الفلسطينية من أهمية إستراتيجية بالغة من حيث بعدها الديني والحضاري والإستراتيجي. فكيف ذلك؟
1- الصراع على قيادة المنطقة وعلاقته بالمسألة الفلسطينية:
أ- يعاني النظام العربي أزمة شرعية تصل إلى حد الإفلاس الديمقراطي باعتبار شرعية النظم في عصرنا تتقوم بما تتمتع به من ديمقراطية أي من قبول لدى المحكومين، وهو ما يفسر تصاعد ميزانيات وزارات الداخلية حماية لأمن النظام لمواجهة مطالب التغيير والاحتجاج المتصاعدة، مقابل تراجع الميزانيات الراعية لأمن المجتمع كالتعليم والصحة والدفاع أيضا، على اعتبار أن الخطر على هذه الأنظمة لم يعد خارجيا وإنما من الداخل.
من هنا نفهم اللقاءات الدورية لوزراء الداخلية مقابل الغياب الكامل للوزراء الآخرين كالدفاع. كما نفهم ما يعتري هذه الأنظمة من رعب تجاه الحديث عن انتخابات تعددية جادة أو تجاه حركة الشارع خشية انفلات الغضب، أو حملها على ما تكره من تلبية مطالب داخلية في العدل والديمقراطية أو مطالب خارجية كالوقوف إلى جنب مشروع المقاومة في فلسطين أو العراق، بما يصادم ويهدد شرعيتها المستندة داخليا إلى القمع وخارجيا إلى الدعم الغربي، وأحد شروطه حماية المشروع الصهيوني والسير بجد صوب التطبيع والشراكة معه، على حين يشتد طلب الشعوب على العدل والحرية والإسلام داخليا، وعلى مقومات الاستقلال عن المعسكر الغربي خارجيا، وما يعنيه ذلك من وحدة صف ودعم للمقاومة ضد الاحتلال، وهو ما يجعل أنظمة المنطقة ضائقة ذرعا بالمسألة الفلسطينية ربما أشد ضيقا من رابين إذ تمنى أن يصبح يوما فيجد غزة وقد ابتلعها البحر، هؤلاء يتمنون ذلك لفلسطين كلها. لا سيما وقد أفضت قيادة المشروع الوطني لتحرير فلسطين إلى يد تيار، جمع البغيضين: الديمقراطية والإسلام.
ب- لقد نجحت أنظمة القمع حتى الآن في إجهاض أشواق ومحاولات شعوبنا نحو الالتحاق بركب الديمقراطية المتجول في العالم دون أن يسمح له بالتعريج علينا، تيقّنا من قبل قوى الهيمنة أن الديمقراطية ستطلق مارد شعوبنا المكبل، فيفرز أنظمة حاملة لمشاريع ثلاثة محظورة علينا: مشروع الوحدة، ومشروع توظيف ثرواتنا وبالخصوص النفط في خدمة قضايا أمتنا، ومشروع تحرير فلسطين.